Home تقارير عمال مصر القدماء.. صُناع الحضارةُ الفرعونية

عمال مصر القدماء.. صُناع الحضارةُ الفرعونية

0
عمال مصر القدماء.. صُناع الحضارةُ الفرعونية

خبراء: بناة الأهرامات هم العمال ولا تدخل لفضائيين أو جان

مدن وجبانات عمالية بالجيزة والأقصر

القدماء أول من عرفوا العلوم الإدارية ودونوا الحضور والغياب

مهن شغلتها المرأة فى مصر القديمة

كتبت: ميادة رجب

قبل أكثر من 7000 عام هى عمر الحضارة الفرعونية القديمة، سطر عظماء مصر من عمالها القدامى إنجازات لازال يتحاكى بها العالم، ما بين تشييد وبناء للأهرامات العملاقة التى حار فى بنائها العلم الحديث وبين إقامة معابد دينية وقصور ملكية وجدران عملاقة نقشت فوقها الكثير من الأسرار والرسوم التى تحكى تاريخ الأُسر المتعاقبة بخلاف أسرار التحنيط، وما صنعه المثالون والنحاتون والنجارون ومختلف الحرف التى صنعت حضارة بلاد النيل، وكتب لها الخلود بفضل خلايا نحل لم تتوقف عن عزف سيمفونية جماعية لن تتكرر، ليبقى العامل المصرى القديم هو صاحب الفضل، ومصدر كل فخر وإعزاز فى كل عام، تحتفى فيه الدولة المصرية بعمالها.

بناة الأهرامات

بناة الأهرامات.. حشود من العمال المصريين القدماء، تميزوا بالقوة والحرفية، برعوا فى بناء الأهرامات التى صنفت أنها من عجائب الدنيا السبع، أطنان من الحجارة تراصت فوق بعضها البعض بشكل هندسى من خلال عشرات الآلاف من العمال بشكل أذهل علماء كل العصور، حيث عاش هؤلاء العمال بالجوار من تلك الأهرامات لسنوات حتى اكتملت المعجزة وخرجت الأهرامات لتنبئ بخلود الحضارة الفرعونية القديمة.

جبانة العمال بالجيزة

وبالقرب من الأهرامات، أيضا دفن هؤلاء العمال القدامى فى جبانة احتضنت أعدادا غفيرة وتوابيت جمعت البنائين لتجاور مقابرهم مقابر الملوك والعظماء، بما يؤكد على مكانتهم ودورهم العظيم فى تخليد حضارة مصر القديمة – بعكس ما كان يشاع من أن الأهرامات بنيت بتحضير الجان، وآراء أخرى تزعم أنها بنيت عن طريق “السُخرة” وبأيدى العبيد وبمساعدة الفضائيين- حتى تم اكتشاف جبانة العمال بالجيزة فى عام 1990 على يد فريق من الباحثين ترأسه عالم الآثار الدكتور زاهى حواس، ليؤكد الحقيقة الجازمة بأن الأهرامات بنيت على أكتاف عمال مصر القدماء وفق منظومة عمل عادلة.

وزير الآثار الأسبق دكتور زاهى حواس، يقول أيضا إن بناء الأهرامات فى تلك الحقبة كان يعد مشروعا قوميا، ومن هنا تم استنفار آلاف العمال للعمل والمشاركة فيه برفع وبناء أطنان من الحجارة العملاقة حيث تجاوز وزن الحجر الواحد ما يقرب من 70 طنا، وهو ما كان يتطلب جهدا كبيرا وفكرا غير تقليدى، شارك فيه المهندسون والخبراء والعمال سواء بسواء وبشكل مثير للعجب حتى الآن.

منطقة حيط الغراب بالجيزة، مكان غير تقليدى لازال شاهدا على تاريخ العمال الذين عاشوا وعملوا بجواره وماتوا فيه، حيث تنقسم مدينة العمال هناك لثلاثة شوارع عبارة عن مقابر على شكل قباب، وجزء آخر يحوى مقابر نحتت فى أحضان الجبال، وآخر كان عبارة عن ثكنات للعمال، وصالات لإعداد الطعام، وهو ما يؤكد أنها كانت مدينة متكاملة مخصصة لبناة الأهرامات.

مدينة العمال والمشرفين

عثر فى تلك الجبانات التى تتواجد بالمدينة، أيضا على مقابر لأهم الشخصيات العمالية مثل مقبرة “نفرثيث” وهو المشرف على المخابز، ومقبرة “بى تيتي” وكان مشرفا على عمل الصبية والشباب، كما تواجدت مقبرة “بن عات” وتعنى “الداية” التى كانت مكلفة بمساعدة النساء عند الولادة، وكانت زوجة أحد المشرفين وأنجبت منه 11 طفلا، كما عثر على صالات لإعداد الطعام، وكان بالقرب منها بقايا عظام للأسماك وغيرها من الحيوانات وقدور للجبن.

حقائق مدهشة

وما يدعو للدهشة أكثر تلك المعلومة التى خرجت مؤخرا لتؤكد أن عدد بناة الأهرامات كان يتراوح بين 10000-30000 عامل- بعكس ما ذكره المؤرخ الإغريقى هيرودوت- الذى توقع أن أعداد البناة لن تقل عن 100 ألف عامل- بحسب الباحث الأثرى وعضو اتحاد الأثريين عماد مهدي، الذى يشير إلى أنه تقديرا لهؤلاء العمال ولمكانتهم فقد صنع لهم الملوك تلك المدينة، كما تم دفنهم بالقرب منهم اعترافا بالفضل وتقديرا لجهدهم الشاق الذى بذلوه بالحب لا بالسخرة كما يدعى البعض.

آداب و أعراف

ويشير الباحث أيضا.. إلى أن عمال مصر القدامى كانت تحكمهم آداب وأعراف عظيمة أهمها: الشجاعة والإخلاص فى العمل والصبر والتحمل، فضلا عن الشهامة والنخوة فى المواقف الصعبة وعلى الصعيد الاجتماعى فكانت لديهم أعراف وآداب خاصة فى الزيارات والمعاملات والتلطف مع النساء ومساعدتهن، فضلا عن الاستئذان فى الزيارات، والحرص على علاقات الجيرة والترابط، وتبادل الطعام والشراب، وحب العمل الجماعى والتجمعات.

مدينة العمال بالأقصر

منطقة دير المدينة والتى تقع فى جبل القرنة، البر الغربى فى شمال وادى الملوك بالأقصر، منطقة عمالية أخرى كانت مأهولة بالعمال وهى جزء من مدينة طيبة الجنائزية، عثر بداخلها أيضا على أكثر من 50 مقبرة للعمال والمشرفين بالأقصر.

وكان الهدف الأساسى لبناء دير المدينة، أن تصبح مقرا رئيسيا لعائلات العمال من النحاتين والكَتَبة والخٌدام والمشرفين المعنيون بحفر القبور وتزيين المقابر الملكية ونحت التماثيل.

تضم دير المدينة عدة مقابر عمالية أهمها مقبرة “سنجم”، التى كانت تضم عمال وادى الملوك، وتحتوى على نقوش ورسومات مميزة تعلو الجدران، وتحكى حياة المصريين القدماء، وتم اكتشافها عام ١٨٨٦، إلى جانب مقبرة “غا” وكانت لمشرف عمال منطقة دير المدينة، ووجد بداخلها مومياء “غا” وزوجته “مريت”.

منظومة عمل متكاملة

خلايا نحل تعمل بجهد وإخلاص وفق ساعات عمل تتجاوز الـ 10 ساعات يوميا وفق نظام صحى وغذائى بسيط، يعينهم على أداء مهامهم الشاقة، من خلال مساكن وثكنات صنعت من والماء والطين بالقرب من مناطق العمل لاختصار الوقت وإنجاز المهام مع إشراف ومتابعة للمخالفين والمتقاعسين – منظومة متكاملة لفكر حكيم هزم الآلات والمعدات الحديثة والتقنيات المعاصرة، وجعل الحضارة المصرية شمسا لا تغيب.

.

اهتم العامل المصرى القديم بطعامه وغذائه رغم فطرته البسيطة، وبحسب الحالة المادية والظروف الاقتصادية، كانت تتشكل جعبته ووجبته اليومية التى تعينه على أداء مهمته الشاقة فى العراء والصحراء، وهو ما جعل اعتماد الغالبية العظمى من الطبقة العمالية الكادحة، تتركز على الوجبات البسيطة مثل: الجبن القريش والخبز المصنوع على الشمس والقمح المبلل والمنقوع فى اللبن بجانب اعتماده على رؤؤس الثوم والبصل بالتزامن مع وجود الجبن القديم”المش” التى كانت تعتبر وجبة أساسية بالإضافة للأسماك الجافة المملحة -أحيانا- فى أوقات اليسر.
وبحسب المختصين- أن القدماء المصريين كانوا يعتمدون على الأطعمة المجففة والمالحة، لكى تساعد الجسم فى إخراج العرق ومن ثم ترطيب درجة حرارته للتخفيف من وطأة الحر وتعامد الشمس التى كانت تدنو من الرؤوس أثناء العمل  فى المعابد وتتسبب فى الإصابات المتكررة بضربات الشمس وهو ما يثبت أنهم كانوا رغم بساطتهم يتمتعون بعقلية فذة سبقت كل العصور والعلوم الحديثة، وأنهم لم ينصاعوا يوما للعشوائية فى أى شىء .

جدران عملاقة لا تشبه غيرها امتدت لعشرات الأمتار ارتفاعا وطولا، نقشت فوقها رسوم ورموز، رصدت حقب وأسر ممتدة وعلوم لازالت تٌدَرس حتى الآن، معابد تعانقها الشمس فى أوقات محددة من العام وتتعامد عليها، مركبات ملكية، أهرامات ومقابر للآلهة، وغيرها من الصروح التى بنيت على أكتاف قدماء المصريين من العمال تؤكد أنهم أصحاب الفضل الحقيقى وأنهم كانوا ومازلوا عباقرة كل زمان ومكان.

 “الحضور والانصراف والأعذار”

تطبيق الثواب والعقاب مع المتابعة المستمرة.. كان واحدا من أهم الأنظمة الإدارية التى ابتكرها القدماء لضبط منظومة العمل، كما كانوا أول من عرف فكرة تسجيل الغياب مع تدوين الأعذار للعمال.

وبحسب موقع “mymodernmet” ، فقد لجأ أصحاب العمل قديما من القدماء لتسجيل الغياب على ألواح صخرية صنعت من مادة الحجر الجيرى الذى كان  يعرف باسم “أوستراكون”، نقش عليه كتابات باللغة الهيراطيقية، باللونين الأحمر والأسود.

والمضحك هنا أن أعذار الأجداد القدامى لم تختلف عن أعذار الأجيال الحديثة من الأحفاد، حيث أدرج على أحد الألواح أهم أسباب الغياب لدى بعض المصريين القدماء والتى تمثلت فى غياب العامل “بنيوب” فى الشهر الرابع من الشتاء يوم 24 لأن والدته كانت مريضة، بينما غاب موظفون آخرون بسبب مرضهم، كما اضطر البعض الآخر إلى أخذ إجازة لتحنيط أقاربهم المتوفين.

لوح آخر من هذه الألواح يتواجد فى المتحف البريطاني، ويعود تاريخه إلى عام 1250 قبل الميلاد، رصد غياب 40 عاملا، لأسباب تتراوح ما بين المرض والأعذار العائلية المختلفة وهو ما يشير إلى ازدهار علم الإدارة آنذاك.

العمل النقابى الذى عرفه المصريين حديثا، هو الآخر كان أحد أهم أعمدة منظومة التشغيل فى مصر القديمة منذ آلاف السنين وذلك للحفاظ على حقوق العمال وحمايتهم.

يقول الأثرى المصرى على رضا، إن العلماء وجدوا فى مدينة أبيدوس التى كانت تعتبر قبلة الحجيج فى مصر القديمة، لوحات جنائزية لعمال محاجر ونجارين وصناع، مؤكدا أن العمل النقابى عند القدماء كان له دور، وأن النقابى العمالى كان يحظى بمكانة مرموقة فى الدولة ومحل احترام من الملوك لأنهم يمثلون قوة الدولة ونهضتها.

عمل المرأة

ويضيف: البلاط الملكى كان يضم العديد من فئات العمال، مثل الفنانين والكتبة والمعماريين والنجارين والخبازين والسقاة والمحاسبين والمعلمين والموسيقيين، موضحا أن العمل النسائى كان موفورا ومعترفا به عند المصريين القدماء، وأن المرأة المصرية عملت فى كثير من المهن والصناعات، مثل الفخار والغزل والنسيج، وغيرها، وهو ما أظهرته النقوش والرموز المكتشفة.

الإضرابات

 منظومة العمل فى الحضارة الفرعونية أيضا عرفت ما يعرف بـ “الإضرابات العمالية” حيث ذكر دكتور زاهى حواس -فى تصريحات صحفية- أن أول تظاهرة عرفها عمال مصر كانت فى عام 1970 قبل الميلاد، فى عهد الملك رمسيس الثالث، حين تأخر صرف الرواتب لمدة 20 يوما بسبب تدهور الحالة الاقتصادية، ومنع العمال من الحصول على إجازات كافية، ووقتها ألقى العمال المكلفون ببناء المعابد والمقابر فى منطقة دير المدينة بالأقصر، بأدواتهم ومعداتهم ومشوا فى مسيرة ليلية قادوها بالمشاعل أمام معبد الملك “مرنبتاح”، وظلوا على الحال حتى تحققت مطالبهم.

دروس وعبر لتاريخ ممتد لازال يبحث الفخر بداخل كل عامل مصرى ويجعل من عمال مصر القدامى أيقونة باقية على مر العصور بما صنعوه، لتكتمل المسيرة بالمعاصرين، وتبقى مصر أم الحضارات، وصانعة المعجزات بسواعد أبنائها.